11‏/12‏/2020

تحديات تشكيل الحكومة اللبنانية

 تحديات تشكيل الحكومة اللبنانية

د. خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

       من مفارقات لبنان العجيبة الغربية ارتباط معظم الاستحقاقات الداخلية باستحقاقات خارجية، بعضها ربما يكون مبررا ، ومن بين تلك المسائل تشكيل الحكومة اللبنانية التي مضى على استقالة رئيسها ثلاثة اشهر وارتبط موضوع التكليف والتأليف بانتخابات الرئاسة الاميركية، وعلى الرغم من انجاز الملف الاميركي، لا مؤشرات قريبة على تشكيل الحكومة، اذ سيمر وقت طويل اقله على ما يبدو  لتسلم الرئيس جو بايدن مهامه في العشرين من يناير/ كانون الثاني القادم علاوة على فترة إضافية ذات صلة بتركيبة السلطة الديموقراطية الجديدة .فهل ذلك  كافيا ام هناك تحديات إضافية أخرى ينبغي تذليلها قبل ذلك؟. وهل يتحمل لبنان هذا الترف الزمني؟.

       في المبدأ لطالما ارتبط الحراك الحكومي بأي مستجد خارجي، لكن لبنان حاليا يقف على مفترق طرق خطرة، ذلك بفعل إدخاله بمسارات غير معروفة النتائج ،علاوة على تخبطه بأزمات ذات طابع كياني. فالشرائح اللبنانية الوازنة لا زالت متباينة الرأي حول الكثير من القضايا، وبالتالي ازدياد الانقسام العامودي الذي انعكس سلبا على مسار التشكيل، من بينها الاختصاص والمداورة الذي يتم التلطي وراءه فيما الاسباب الحقيقية غير ذلك تماما.  وبالمناسبة لا يمكن استثناء أي فريق من ذلك.

       ثمة سبب اضافي طرأ مؤخرا اسهم وسيسهم بعرقلة التأليف وهو ذات صلة بالعقوبات الأميركية التي فرضت على بعض الوزراء ذات الصفة السياسية بعينها، والتي تستغل لممارسة اقصى أنواع الابتزاز السياسي التي تبدو في كثير من الأحيان لا قدرة للبنانيين على تجاوزها في معرض مناكفاتهم اليومية المعتادة، في وقت يفترض تجاوز الكثير من القضايا للوصول الى اتفاقات تعيد الحد الادنى من آمال اللبنانيين بسلطة قادرة على تمثيلهم وحماية  مصالحهم التي افتقدوا معظمها في الفترة الماضية. 

       ومن التحديات التي تواجه تشكيل الحكومة الظروف القاسية التي يمر بها لبنان وشعبه، ثمة انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، وضع صحي خطير لجهة تفشي وباء كورونا وسط غياب المعالجات الفعالة، معطوفة على أوضاع اجتماعية سيئة لجهة نسب البطالة، والفقر والتهميش الاجتماعي علاوة على مظاهر سلبية ناجمة عن هذه الظروف كالتفكك الاسري وانتشار الجريمة، وظهور مظاهر مجاعة مقبلة اذا ما استمرت الاوضاع بتراجع متسارع كما هو حاصل اليوم.

         كما ان تشكيل الحكومة يواجه تحديات خارجية وازنة من بينها، مخاطر احداث امنية وعسكرية داهمة في المنطقة في الفترة الانتقالية الرئاسية في الولايات المتحدة، علاوة على ملفات حساسة كمفاوضات ترسيم الحدود البحرية والقضايا المتصلة بالغاز والنفط في شرق البحر المتوسط وملفي اللاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان، وعليه تشكل هذه العقبات والتحديات الداخلية والخارجية مصاعب كبيرة في وجه التشكيل السريع، بصرف النظر أيضا عن حجم فعالية الحكومة المفترضة في تأدية برامجها. 

        وعلى الرغم من الرقابة الحثيثة وبخاصة الفرنسية من خلال مبادرة رئيسها، لم تستطع هذه المتابعة اللصيقة من احراز تقدم واضح في اعادة تكوين البيئة السياسية الحكومية اللبنانية، فلا زالت المواعيد يتم تجاوزها، كما يتم النكوث بالوعود، ما أدى الى ضياع بعض الفرص التي ربما تكون واعدة في بعض اوجهها، ومن بينها العلاقات مع البيئات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي.

       لقد اعتاد اللبنانيون على تعثر تشكيل حكوماتهم حتى باتت شكلا من اشكال التراث السياسي المعتاد، الا ان ما تمر به الازمة الحالية من تعقيدات غير مسبوقة لجهة تشابك القضايا والتحديات والمخاطر، تجعل من إمكانية التشكيل السريع امرا صعبا ومبالغ فيه، ففي الحالات العادية الأقل تعقيدا وصل الامتداد الزمني الى التسعة اشهر ، فهل ستخالف الظروف تلك الفرضية ويشهد لبنان ولادة حكومية سريعة؟ ام ان ما يحكم لبنان محددات وضوابط لن يكون بمقدوره تجاوزها؟ ان تدقيق سريع يبين ان وقتا طويلا سيمر قبل وصول لبنان الى وضع حكومي مستقر ومقبول.   


لبنان ومؤتمر باريس

 لبنان ومؤتمر باريس

د.خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

     ثمة من يقول ،ان لبنان تمكن في السابق من تخطي ظروف اكثر صعوبة من التي يمر بها حاليا، وأعاد تكوين الدولة والسلطة رغم وجود مصاعب ومعوقات تكاد تكون مستحيلة معها إعادة البناء، ربما ذلك صحيحا وامر مألوف في الحياة السياسية اللبنانية، الا ان أوضاعه وظروفه الخاصة والموضوعية باتت اكثر صعوبة ، وتتطلب شروطا ومعطيات إضافية، ليست متوفرة او سهلة التأمين، اقلها في المدى المنظور ؛ وعليه ان اعادة البناء،  لها مقوماتها التي على اللبنانيين التفكير فيها مليا والعمل على تأمينها قبل فوات الأوان. 

      واستكمالا للمبادرة الفرنسية التي اطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون في أغسطس / آب الماضي، عُقد في باريس مؤتمرا دوليا لدعم لبنان، ويدل حشد الحضور الذي تمثل بتسع وعشرين دولة إضافة الى الامين العام للأمم المتحدة، على النية للمساعدة المشروطة بأجراء العديد من الاصلاحات التي سبق ونادت بها العديد من الدول المانحة وفي طليعتها فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وصندوق النقد الدولي، ورغم ذلك ظهر في انعقاد المؤتمر وجلساته ما يظهر استياء فرنسيا من الموقف السياسي اللبناني، تمثَّل أولا بالكلمة التي أعطيت بداية للمجتمع المدني متقدما على الكلمة الرسمية للبنان، إضافة الى الرسائل السياسية التي تقصدتها كلمات الحاضرين وفي طليعتها كلمة الرئيس ماكرون، الذي شدد ان المساعدات التي يمكن ان تُمنح للبنان هي للشعب وليست للسلطة، ما يؤشر بشكل واضح الى فقدان الثقة في ممارسة الحكم في لبنان، وهذا ما يُفسر عمليا الإصرار الدائم على اجراء الاصلاحات العملية قبل أي مساعدات يمكن  تقديمها، ذلك استنادا الى التجارب السابقة  المتصلة بمؤتمرات دعم لبنان التي نظمتها باريس خلال العقد الماضي والتي استهلك لبنان مليارات الدولارات ذهبت في غير موضعها، حيث هناك اتهامات مباشرة وواضحة بحجم غير مسبوق من الفساد المستشري في الإدارة اللبنانية.

      لبنان اليوم بحاجة لإعادة بناء نظام اقتصادي سياسي اجتماعي ، عنوانه عقد سياسي اجتماعي قائم على معطيات جديدة ينبغي مراعاتها، يأتي في طليعتها إعادة البناء المالي والاقتصادي الذي انهار تماما وباتت البلاد في حالة من التفكك والانحلال . ثمة اكثر من نصف الشعب اللبناني تحت مستوى خط الفقر المدقع، كما بات مهددا بالمجاعة، وبانهيار الامن الاجتماعي اذا ما تم رفع الدعم عن المواد الأساسية وهو ما سيحصل ما سيؤدي الى انفلات الأمور من عقالها عمليا في وقت باتت مؤشرات الافلاس واضحة تماما وتحتاج إعادة الهيكلة الى معجزات لن تحصل الا بشروط الاصلاح السياسي والمالي التي تطلبها المؤسسات الدولية المانحة منذ فترات طويلة سابقة.

       أشار المؤتمر الى إمكانية تقديم ما يقارب الثلاث مئة مليون يورو من حيث المبدأ وجلها يمكن ان تذهب في اطار الدعم الغذائي والتعليمي وغيرها، وهي مطارح مركزية يحتاجها المجتمع اللبناني في ظل ظروف قاهرة يعيشها، والرسالة الاشد قسوة كانت في طريقة وأسلوب صرفها عبر المؤسسات والبنى غير الرسمية ، ما يدل على عدم الثقة بالسياسات القائمة حاليا. سيما وان المشاريع المبدئية المقدمة تشير الى حاجة لبنان المبدئية للإقلاع بمشاريع اعادة البناء في الحد الأدنى الى عشرة مليارات دولار.

       لقد وصل لبنان الى حدود الخطوط الحمر اقتصاديا وماليا وسياسيا واجتماعيا، وهو الآن بحاجة الى معجزة دولية لإيقاف انهياره المتسارع جدا، ما يحتم أولا يقظة اللبنانيين قبل غيرهم ، والاعتراف بما يعانون من ازمة نظام وحكم، والعمل على إعادة تهيأة وتركيب مشاريع أسس جديدة لبناء النظام والسلطة على قواعد جديدة تتماشى ليس فقط مع المتغيرات الداخلية، وانما أيضا مع ما يحدث من حوله في العالم، ذلك يتطلب وعيا واستشرافا للمستقبل، سيما وان العالم بأجمعه مشغول وغارق في مشاكله، ربما اليوم ثمة من ينتبه للبنان ، اما مستقبلا فيبدو الأمر اكثر صعوبة، عندها لن تتمكن مؤتمرات باريس السابقة ولن تكون اللاحقة قادرة على مساعدة لبنان ان لم يساعد نفسه أولا في الاصلاح قبل أي امر آخر.